سنتعرَّف من خلال هذه السلسلة من المقالات (13 مقالة) على موضوع نظرية التوازن التي تم وضع أفكارها الأساسية على يد العالم النمساوي (فريتز هيدر)، سنتعرَّف أيضاً على نظرية الرسم البياني وارتباطها الوثيق مع نظرية التوازن، وكيف أدّى حل معضلة جسور كونغيسبرغ السبعة إلى ظهور أول مبرهنة في نظرية الرسم البياني؟ ما هي نظرية التوازن الاجتماعي، وكيف تُزودنا هذه النظرية بأداة هامّة لتحليل النظام الاجتماعي، وكيف يميل الأفراد لاختيار حالة التوازن في علاقاتهم الشخصية؟ كيف أدّى تأميم مصر لقناة السويس إلى بدء سلسلة من الأحداث التي تضمَّنت العُدوان الثلاثي وما تلاه من حالات التوازن أو عدم التوازن بين الأُمم المشاركة في الصراع؟ الربيع الهنغاري وديناميكيات العلاقات الدولية (الاتحاد السوفييتي، الهند، هنغاريا، العالم الحر) حول الوضع في هنغاريا. الصراع في سوريا والكيفية التي تقوم بها علاقات الصداقة والعداء بين الدول (الولايات المتحدة، روسيا، تركيا، إيران، سوريا) بإنتاج الاستقرار أو عدم الاستقرار في سوريا. التوازن وعدم التوازن في سياق الألعاب الرياضية والرعاية مع أمثلة من الدوري الإنجليزي الممتاز وسباقات السيارات في أمريكا. العُنف بين العصابات في إحدى مناطق كاليفورنيا وكيف تستخدم الوحدة المُضادة للعصابات مفاهيم نظرية التوازن للتنبّؤ بأحداث العنف. نظرية النُظم العائلية وأهميّة إبقاء شبكة العلاقات العائلية (العلاقة بين الأشقّاء / العلاقة بين الآباء والأبناء) في حالة توازن. كل ما سبق سيتم مناقشته من خلال هذه المقالات المُوجَّهة إلى فئة واسعة من القُرَّاء تشمل: صُنَّاع القرار، الباحثين في علم النفس، علم الاجتماع، العلوم الأمنية، العلاقات الدولية وكذلك الباحثين في مجالي الإدارة والتسويق.
نظرية التوازن: مقدمة
عندما تتنافس الكيانات ضمن النظام الاجتماعي فإن التوتُّر يكون حتميَّاً، هذا الأمر صحيح سواءً أشرنا إلى الشُركاء في علاقة عاطفية، أو المنظمات المتنافسة للحصول على الموارد أو الحصة السوقية، أو الدول التي تُريد تحصيل مكاسب وطنية أكثر، فمثلاً عندما تقرر الأمم شن الحروب فهي تقوم أولاً بالمسح المُتأني للشبكة الواسعة للعلاقات الدولية لتكون حذرة ليس فقط بقياس قوات عدوها الوحيد ولكن لقياس ما إذا كان هناك أُمم أُخرى يستطيع العدو إقحامها بالصراع، والتصرُّفات ضمن العُنف بين الأفراد لا تختلف كثيراً، فالقرار حول ما إذا كان من الممكن الدخول في صراع مع فرد أو الابتعاد عنه عادة ما يكون مُشكَّلاً بقياس أدوار وتصرُّفات الأفراد الآخرين، فمن المعروف أن دور الأطراف الثالثة (third parties) سواءً كانت مُمثَّلة بالجمهور أو أي مشارك فعَّال يُحرِّض أو يردع العنف، تم الإشارة إليه ضمن النزاع في تشكيلة السياقات الاجتماعية، ويتضمَّن ذلك العُدوان بين الأفراد، العُنف المنزلي والصراع بين الأشقاء، النزاعات بين المجتمعات المتعادية، والعُنف الجماعي.

ومن الثابت أن نظرية التوازن هي واحدة من أكثر النظريات التي طُبِّقت على الظواهر الموقفية (attitudinal)، حيث تُشير نظرية التوازن إلى أن الناس عموماً، يُفضِّلون أن يكون لديهم توازن، ترتيب، وتناغم في حياتهم، ولذلك، في كل مرة يكون هناك عدم توازن، الناس سيُغيِّرون مواقفهم و/أو سلوكهم بطريقة تُمكِّنهم من استعادة التوازن، ونتيجة لذلك، الأفراد سيميلون إلى تفضيل أي شيء مرتبط مع ما يُفضِّلونه وسيميلون إلى كره أي شيء مرتبط مع ما لا يُفضِّلونه، وإلا لن يكون هناك توازن. وبعبارة أُخرى يمكن القول أن حالة عدم التوازن تنشأ عندما يوجد اتفاق مع الأشخاص الذين نكرههم، أو عدم اتفاق مع الأشخاص الذين نُحبهم، فعدم الاتساق ينطوي على الحقيقة القائلة “بأننا نُحب أن نتفق فيما نُحِبُّه أو نكرهه، كما أننا نكره أن نختلف فيما نُحِبُّه أو نكرهه”.
في سياق العلاقات بين المجموعات المُعرَّضة للصراع، مثل التنافس بين العصابات، هناك توصيف آخر للتوازن يكون ذا أهمية: عندما يكون الهيكل متوازناً، يتم رسم الحدود بين الصديق والعدو بوضوح “أنت إما معنا أو حليفنا، أو أنت ضدنا أو عدونا”. وعلى العكس، يتميز الهيكل الثلاثي غير المتوازن بالغموض فيما يتعلق بمن هم أعداء المرء ومن هم أصدقاؤه، فعلى سبيل المثال، إذا كان صديق أحد الأصدقاء عدواً، فهناك عدم يقين بشأن ما إذا كان صديق الشخص المحوري سيكون أكثر ولاءً له أو لصديقه الآخر (عدو الشخص المحوري).

ولتوضيح الفكرة السابقة سنقوم بذكر الأمثلة التالية التي تتضمن ثلاثة حالات ضمن مجالات شائعة:
المثال الأول: في تشكيل مكون من ثلاثة فرق في الدوري الإنجليزي لكرة القدم (ليفربول، مانشستر يونايتد وتشيلسي) نُلاحظ عموماً وجود علاقات سالبة (غير ودية) بين الفرق الثلاثة (تكون أكبر بالطبع بين فريقي ليفربول ومانشستر يونايتد) كما هو موضَّح في الشكل التالي:

والسؤال المطروح هنا: في حال لعِبْ مباراة بين فريقين من الفرق الثلاثة السابقة، إلى أي الفريقين ستميل تفضيلات الفريق الثالث وجماهيره؟
المثال الثاني: يُمثِّل الشكل التالي علاقة بين ثلاثة دول (X, Y, Z)، حيث نلاحظ وجود علاقة سلبية (غير ودية) بين (Y) و(Z) اللتان تتشاركان بعلاقة إيجابية (ودية) مع (X).

في المثال السابق تتحقق حالة غير متوازنة (سنشرحها لاحقاً)، وعليه لو افترضنا حدوث مفاوضات بين كل من (Y) و(Z) وكان (X) وسيطاً بينهما:
- هل يمكن أن تميل تفضيلات (X) خلال المفاوضات إلى أحد الطرفين (Y) أو (Z)؟
- في حال أدَّى فشل المفاوضات إلى نُشوء حرب بين (Y) و(Z) وقرَّر (X) الخروج عن الحياد فإلى أي طرف ستميل تفضيلات (أو حتى انحياز) (X)؟
المثال الثالث: في الشكل التالي نلاحظ حالة شائعة جداً تتمثَّل بالخلاف بين الأب والأم الذي يؤدي غالباً إلى وقوع الطفل ضحيَّة بين الوالدين:

وهنا نلاحظ أن العلاقة بين الأب والأم سالبة (غير ودية) وفي نفس الوقت فإن علاقة الابن مع كلا والديه إيجابية (ودية) وهو ما يؤدي إلى حالة من عدم التوازن (سنشرحها لاحقاً) وبالتالي حدوث تَوَتُّرْ، وهنا يمكن طرح التساؤل البديهي فيما إذا كان الابن في هذه الحالة أكثر ولاءً لأبيه أو لأمه؟
نلاحظ من الأمثلة الكثيرة في حياتنا اليومية أن التوتُّر قد يكون لا مفر منه، إلا أن حل التوتُّر عن طريق العُنف ليس كذلك، ففي الواقع يتم حل معظم التوتُّرات من خلال وسائل سلميَّة غير عنيفة، وبالتالي فإن الخلاف الأسري لا يؤدي دائماً إلى العُنف المنزلي، كما أن التوتُّرات بين الدول القومية لا تتصاعد دائماً إلى حرب مفتوحة، وهنا يأتي السؤال المهم: ما الذي يميز مجموعات التوترات التي يتم حلها سلمياً عن تلك التي تؤدي إلى اندلاع العُنف؟ للإجابة على هذا السؤال والأسئلة في الأمثلة السابقة يجب على المرء أن يأخذ في الاعتبار المشهد الأوسع للروابط الاجتماعية التي تربط أعضاء النظام ببعضهم البعض. فعلى سبيل المثال، غالباً ما تؤدي عملية التفاوض والدبلوماسية إلى حل القضايا سلمياً، ولكن في جميع الحالات، يعتمد نجاح (أو فشل) الجهود الهادفة إلى منع الصراع على العلاقات التي تتجاوز الأطراف المشاركة بشكل مباشر في النزاع، وعليه يجب أن نأخذ في عين الاعتبار احتمالية وجود أو غياب الروابط مع الأعضاء الآخرين في النظام الاجتماعي وكذلك طبيعة هذه الروابط وذلك من أجل التنبؤ بشكل أفضل باحتمالية اندلاع حالات العُنف، وهو ما سنقوم بشرحه بالتدريج في هذه السلسلة من المقالات.
يمكن الحصول على المصدر الأساسي لهذه المقالة (وبنفس الوقت دعم المدونة) عن طريق شراء الكتاب التالي، ودمتم سالمين.


يمكن الاشتراك لتلقي آخر التدوينات فور نشرها بالإضافة إلى تحميل جميع محتويات المدونة الحالية عبر ملف مضغوط واحد:
*-يُرجى تفقد البريد الوارد أو البريد غير الهام والاشتراك لمتابعة المدونة، بعدها سيتم إرسال جميع محتويات المدونة برابط عبر البريد الإلكتروني المسجل به.



